LOADING

Type to search

جثث مهملة فوق الركام

GB Geo-Blog

جثث مهملة فوق الركام

عشرات الألوف الذين قضوا في زلزال هاييتي كانوا يعيشون في نفس المكان. متقاربين ومتلاصقين من الخوف. الخوف من مواجهة الطبيعة؟ ربما. الخوف من مواجهة الآخر؟ حتماً. إنما أيضاً الخوف من الموت وحيدين. عشرات الألوف تقاربوا كما يفعل الناس جميعاً في كل مكان في الدنيا. يتقاربون ويلتصقون ببعضهم البعض إلى الحد الذي يصبح معه التقارب والالتصاق سبباً إضافياً للخوف الذي حاول هؤلاء، بالتقارب والالتصاق، النجاة منه. المدن تنمو بلا رحمة، ذلك ان المدن هي وسيلة البشر الوحيدة للشعور بالطمأنينة. والمدن التي تنمو بلا رحمة، تصبح فجأة، وبسبب من الاكتظاظ الهائل، مبعثاً للخوف. نتقارب، نتلاصق لكننا لا نتواصل. ليست هذه حال أهل تاهيتي بالضرورة. لكنها من دون شك حال المدن الحديثة والكبيرة، تلك التي ترنو إليها مدن صغيرة كتلك التي ضربها الزلزال برغبة وافرة في أن تصبح مثلها. تنمو بلا رحمة وتتحول من عنصر حماية للاجتماع البشري إلى عنصر تهديد له

قد يرى اي كان هذا الكلام بارداً في مناسبة مفجعة كالتي ضربت تاهيتي. إنما يجدر بنا ان نسأل الذين يتفجعون اليوم، وهم اصحاب عواطف صادقة من دون شك: طيب، ما الذي سنفعله بالتفجع؟ اصلاً ما الذي نستطيع ان نفعله بعد اليوم؟ حين تصبح المدن التي أنشأها الاجتماع البشري لحمايته من كل شر: خارجي وداخلي، صندوقاً للجثث، ما الذي نستطيع فعله او قوله ساعتئذ؟

المفجع حقاً في ما جرى في تاهيتي، ان هؤلاء الموتى جميعاً بلا استثناء، اختاروا، لأنهم بشر، العيش متقاربين ومتلاصقين. همهم الأكثر عمقاً كان في أن لا تترك جثة من يموت منهم على قارعة الطريق. لكن الطبيعة جعلت من المدينة كلها صندوقاً للجثث. ماتوا ولم يجدوا من يدفنهم. وهذه من المرات النادرة التي تعرض فيها الجثث عياناً خارج السينما وخارج افلام العنف والحروب. هذه من المرات النادرة التي نشاهد فيها جثة ونعرف اننا سنشاهد أخرى وأخرى وأخرى إلى ان نصاب بالغثيان. العين لا تشبع والكاميرات ايضاً. لقد عرضت جثث الهاييتيين مرات ومرات، إلى حد لا نهاية له. الكاميرا لا تفعل غير التمثيل بالجثث مرة أخرى، جرياً على عادة قديمة في القرون الوسطى، تقضي ببقر البطون وتعليق الرؤوس المقطوعة على أسنة الرماح. عرضت الجثث للذين اصيبوا بالفاجعة، أي للذين نجوا من الزلزال، وعرضت ايضاً للذين ذهبوا بغرض الإغاثة والمساعدة، وعرضت ايضاً للذين كانوا في بيوتهم يشاهدون شاشات التلفزيون. ولم يتبرع احد ليطفئ العدسة او يغسل الميت. ولن يتبرع احد. الكاميرات ستبقى شاهدة على ان الموت في العصر الحديث لا يصبح موتاً مفجعاً إلا حين تهمل الجثث فوق الركام

The opinions expressed in this blog are strictly personal and do not reflect the views of Global brief or the Glendon School of Public and International Affairs.

الآراء الواردة في هذا البلوغ هي آراء شخصية ولا تعبر عن وجهة نظر غلوبال بريف او غلندون سكول اوف بابليك اند انترناشونال افيرز

Categories:

Leave a Comment

Next Up