هويات ثانوية راسخة
قد تكون حادثة السيدة الأميركية التي فرض عليها احد رجال الشرطة غرامة لأنها تقود سيارة ولا تجيد الإنكليزية في ولاية تكساس ابرعها تعبيراً عن معضلة الهويات الثانوية في الولايات المتحدة الاميركية. تلك الحادثة التي شغلت بعض الإعلام الأميركي لأكثر من اسبوع واستهلكت ساعات من البث التلفزيوني بين مؤيد ومعارض لكلا الطرفين. المدافعون عن السيدة ذات الأصول المكسيكية والتي لا تجيد الانكليزية، رأوا في عمل رجل البوليس ، والقانون الذي يتصرف بوحيه فيبيح فرض غرامة على السائق إذا لم يكن يجيد الإنكليزية، نزوعاً عنصرياً. ودافعوا عن حق التنوع والاعتقاد والجهل باللغة الإنكليزية. أما المدافعون عن رجل البوليس فكانت حجتهم أنه يفترض بالمرء الذي يبدأ حياته في أميركا مهاجراً، ان يجيد لغة البلد إذا كان يريد العيش فيه والانتماء إليه. ورأوا ان عدم إجادتها اللغة يعبر عن نزعة انعزالية واضحة للعيان. وهي بمعنى ما عنصرية مقلوبة. إذ ليس من حق المرء ان يعيش في بلد ويخضع لقوانينه ويستفيد من تقديمات سلطاته ولا يجيد لغته. بافتراض ان اللغة نفسها، مثلما يقول الراحل مؤخراً، كلود ليفي شتروس، هي حياة أخرى.
قد تكون هذه السيدة نفسها شاركت في الانتخابات واعطت صوتها لاوباما. وعليه يجدر بالمرء ان يسأل سؤالاً ساذجاً: ما الذي فهمته هذه السيدة من برنامج اوباما او منافسه ماكين إذا كانت لا تجيد الإنكليزية وإذا كان المرشحان لم يستعملا غير هذه اللغة شرحاً لبرنامجهيما ونقداً متبادلاً لبرنامج كل منهما؟ الأرجح ان ممارسة هذه السيدة حقها في الاقتراع لا بد وأن يثير بعض التساؤل حول صحته.
واقع الأمر ان النظم الديموقراطية تلحظ دائماً الفئات التي ينبغي منعها من ممارسة حقوقها في الاقتراع. ليس ثمة نظام ديموقراطي في العالم لا يلحظ سناً محددة لحيازة الحق في الاقتراع، وثمة أنظمة كثيرة تمنع هذا الحق عن افراد الجيش والأجهزة الامنية، فضلاً عن منعها عن المجرمين الذين لا يحوزون الأهلية القانونية لممارسة حقوقهم الديموقراطية، وبعض الأنظمة لا تبيح للنساء الحق بالاقتراع. والخلاصة ليس ثمة نظام ديموقراطي يبيح لكل الشعب ممارسة حقه في الانتخاب. ذلك ان فلسفة قوانين الانتخاب في العالم كله تفترض ان على المرء ان يكون واعياً لخياراته ومقتنعاً بانحيازه. لهذا تشترط القوانين في الناخب ان يتعدى سناً معينة هي سن الرشد الانتخابي. ومؤدى هذه الفلسفة كما لا يخفى، ان الاهتمام بالشأن العام وممارسة الحق بالانتخاب ليس معطى بموجب الولادة بل هو من المكتسبات التي يحوزها المرء بالمعرفة والتدقيق والانتماء والانحياز. ولئن كانت الحملات الانتخابية في كل بلاد العالم تخضع لمداخلات تحاول التحايل على هذا الأمر، إلا أن الثابت في روحية القوانين الانتخابية برمتها ان النظام العام لا يبيح للجاهل او غير المهتم ان يدلي برأيه او صوته في صندوقة الاقتراع. على هذا لا يجدر بنا ان نستهجن قول بول فيريليو ان الديموقراطية تقنن الرأي ولا تفشوه