أميركا بلا وريث
انتروبولوجيا الاقتصاد الاميركي 5
على غرار ما دافعت الولايات المتحدة الاميركية الناهضة والفتية في بدايات القرن العشرين ومنتصفه، في غمار الحربين العالميتين الكبريين، عن اوروبا المتثاقلة والغارقة في ازمات الكراهية التي تعصف بها، ثمة في التوجه الصيني نحو دعم الولايات المتحدة في الأزمة الراهنة في مواجهة التبشيرات المتسرعة بأفول الامبراطورية الاميركية، ما يشبه الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة لأوروبا يوم كانت تنافسها في التجارة والصناعة والثقافة على حد سواء. انما، وهذا كله، لا يجدر بالمرء ان يسهو عن واقعة اخرى تحول دون وراثة صينية للولايات المتحدة في المدى المنظور، على نحو ما ورثت اميركا اوروبا. وتلك الواقعة هي الحربين الكبريين. إذ خرجت اوروبا من تينك الحربين مثقلة بهمومها ومدمرة على كافة الصعد، فضلاً عن ازمة اقتصادية ومالية كانت تعصف بها ادت على ما يذكر الجميع، إلى انهيارات لا يمكن وصفها في قيمة عملاتها، من فرنسا المنتصرة في تلك الحرب التي ورث فيها الفرنك الجديد الفرنك القديم بعدما انهارت قيمته، إلى المانيا المهزومة، فضلاً عن ايطاليا واليابان. وفي وسع قائل ان يقول ان في حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب ما يشبه الحربين الكبيرتين، لكن الفوارق الهائلة بين الحربين، لجهة القدرات المتكافئة في تينك الحربين بين المتحاربين، لا يمكن مقارنتها بما يجري من حروب اليوم. بل ان اوروبا في ثلاثينات القرن الماضي ارتضت بالتمدد الامبراطوري الألماني في انحاء اوروبا، لأسباب تتعلق اولا بعجزها عن مواجهة القوة الألمانية العسكرية الهائلة، ولأسباب اعمق، على ما يشير سيباستيان هافنر، تتعلق بتسليمها مجتمعة من روسيا إلى بريطانيا ففرنسا، بمقتضيات التفوق الالماني الهائل على كافة المستويات، مما جعلها اعجز من ان تبدي اعتراضاً على اجتياحات جيوش هتلر لأجزاء حيوية من القارة، من بولونيا حتى السويد. والحال، لم تكن المانيا دولة متعدية ومشاكسة وحسب، في ظل قيادة هتلر، بل كانت تملك من المقومات، ثروة وتصنيعاً وقوة مسلحة وتقدماً علمياً وتكنولوجياً ما يؤهلها لحكم العالم. الأمر الذي لا ينطبق، على اي صورة من الصور، على مقارعي اميركا اليوم، والمتنطحين لقيادة العالم، إذ يكفي عقد مقارنة بسيطة بين الحالين لنتبين الجنون المطبق الذي يغلف الدعوات الإيرانية والفنزويلية، فضلاً عن دعوات تنظيم القاعدة ومن كان على شاكلته تفكيراً وتحليلاً.
كان العالم يستطيع في ثلاثينات القرن الماضي ان يحافظ على تقدمه العلمي والتقني تحت قيادة ألمانية، فالمرء كان يستطيع شراء سيارة مرسيدس إذا ما انهارت صناعة السيارات البريطانية، وكان يستطيع شراء ثلاجة من شركة آ، أيه، جيه، الالمانية بدلاً من ثلاجات زوباس الفرنسية. وإذا ما شاء متابعة دراساته العليا، يستطيع ان يلتحق بالجامعات الالمانية العريقة عوضاً عن التحاقه بالسوربون او اوكسفورد. وخلاصة القول ان المانيا، يوم تسلم ادولف هتلر السلطة فيها، كانت دولة اولى بكل معنى الكلمة، من الاقتصاد إلى الثقافة والصناعة والعلوم. اليوم يمكن للمرء ان يتخيل معنى نتائج الحرب الدائرة في العالم بين اميركا وخصومها. طبعاً، ليس ثمة من عاقل يمكنه ان يقتنع ان منطقة القبائل الباكستانية التي يُظن ان اسامة بن لادن وقادة تنظيم القاعدة يتحصنون فيها قد ترفدنا بصناعات واختراعات وادوية مضادة للالتهابات بدلاً مما تنتجه المصانع الأميركية، لكن الامر يتعدى حدود سلطان ومعرفة اسامة بن لادن ونائبه ومجلس قيادته ومجاهديه، إلى ايران وفنزويلا وكوبا: إذ حتى لو تغرغر المرء بالثروة النفطية الإيرانية الكبيرة، فإن الخام الإيراني الثقيل يحتاج إلى مصانع التكرير الأميركية ليتحول زيتاً وبنزيناً ووقوداً. فما الذي يمكن ان تعدنا به ايران لو قيض لها الانتصار؟
The opinions expressed in this blog are strictly personal and do not reflect the views of Global Brief or the Glendon School of Public and International Affairs.
الآراء الواردة في هذا البلوغ هي اراء شخصية ولا تعبر عن وجهة نظر غلوبال بريف او غلندون سكول اوف بابليك اند انترناشونال افيرز