امة المهاجرين
انتروبولوجيا الاقتصاد الاميركي 7
وان تكون اميركا بلد مهاجرين مسألة لها وجهان: واحد سلبي وآخر ايجابي. قد يكون اكثر ما هو سلبي من وجوهها ما لاحظه توكفيل، تكراراً، من ضعف السلطة الفدرالية امام سلطات الولايات المحلية، والحال فإن السلطة الفدرالية التي هي حاجة ومصلحة وضرورة لشعوب الولايات لا تلبث ان تستمد قوتها وضرورتها من علاقتها بالعالم الخارجي. اكانت هذه العلاقة حروباً ام علاقات تجارية. وتأسيساً على هذا الأمر الفريد بين الأمم تجد اميركا نفسها دائماً مدفوعة للتدخل خارج حدودها. وهو الأمر الذي جعل اكثر رؤساء اميركا شهرة واهمية، ابراهام لنكولن، يسعى جاهداً في حل هذه المعضلة عبر جعل الولايات المتحدة بلداً قارياً يمتد صولجانه على شواطئ المحيطين: الاطلسي والهادي. لكن قارية اميركا لم تجعلها تنشغل بنفسها عن العالم، ذلك ان من خصائص السلطة الفدرالية التي تتنازع على الحكم مع السلطات المحلية انها تقوى وتتعاظم من قدرتها على مواجهة الخطر الخارجي: اكان الخطر اقتصادياً ام ثقافياً ام امنياً وعسكرياً. وهو الأمر الذي لا يجد له نعوم تشومسكي تفسيراً مقنعاً، وهو يلح في الدعوة إلى ترك اميركا العالم وشأنه يتدبر اموره كيفما شاء. والحق ان هذه سلطة تفقد جدواها ما ان تخف حدة التحديات التي تواجهها من الخارج، هذا من دون الانزلاق إلى المنطق الذي حمل مايكل هاردت على الظن بأن جيش الولايات المتحدة لن يكف عن اشعال حريق ما ان يخبو حريق، فبعد افغانستان ثمة العراق، وبعد العراق ثمة ايران، وبعد ايران ثمة مكان ما. ذلك ان التحديات التي تجبه السلطة الفدرالية في الولايات المتحدة الأميركية ليست عسكرية دائماً. بل ان الولايات التي تنازعها السلطات العامة، سرعان ما تجد في كلفة الحروب الخارجية ما يعيق السلطة الفدرالية عن الاستمرار في حروبها ولو كلفها ذلك احياناً انسحاباً غير مشرف مثلما حدث في فييتنام. لكن الحاح الولايات الأميركية شبه المستقلة على السلطة الفدرالية لإتمام مهماتها وتجنيب اميركا كل خطر خارجي، يجعل امر المنافسة الاقتصادية مع الصين او الهند مثلاً بمثابة حرب من نوع آخر، ويجعل امر الدفاع عن بقاء مصرف سيتي غروب عاملاً وناشطاً ومتسيداً على قمة الهرم المالي العالمي امراً يجدر بذل التضحيات لأجله، تماماً مثلما يجدر بالشعب الأميركي بذل التضحيات للدفاع عن حدوده ضد اي معتد من خارج الحدود. وعلى هذا ليس مستغرباً ان يحتل امر الصعوبات المالية التي تواجهها شركات السيارات الاميركية هذا الحيز الكبير من النقاش في اميركا، فالدفاع عن بقاء هذه الشركات قيد المنافسة العالمية يشبه في معنى من المعاني الدفاع عن حدود اميركا في وجه اي اعتداء مسلح. والحق، ان خلاصة المطالب التي يسوقها المشرعون الأميركيون في مواجهة ما تطالب به الشركات الثلاث الدولة الأميركية لإنقاذها من الإفلاس المحتوم، يكاد لا يخفي الرغبة الأميركية العامة بأن تبقى شركات السيارات متربعة على قمة هذه الصناعة في العالم، تماماً مثلما يجدر بالجيش الأميركي في مواجهة اي تهديد ان يبقى محافظاً على قدرته الفائقة على الردع دفاعاً وهجوماً وتفوقاً على الخصم تفوقاً ساحقاً
الأرجح ان هذا السعي نحو التفوق متعلق تعلقاً مباشراً بالوجه الثاني الإيجابي من واقعة ان الولايات المتحدة الأميركية هي في الأصل والمسار بلد مهاجرين. فالمهاجرون إلى اميركا تركوا العالم وراءهم. والعالم المتروك لا يبدو قابلاً للعودة إليه، سواء كان المكان المتروك مدينة يورك الانكليزية التي تسمت نيويورك الاميركية باسمها، او كانت شانغهاي او القاهرة او نيودلهي. لذلك يجهد الأميركيون منذ البداية في صناعة وابتكار الفتوحات، وهو ما لاحظه تزفيتان تودوروف في كتابه “فتح أميركا”. لكن الشغف بالفتوحات لا يعني دائماً الفتوحات العسكرية الأمبراطورية او الاستيطان والاستعمار اللذين وصفهما تودوروف، بل ثمة فتوحات واستعمارات من طراز آخر، قد تكون اميركا موطن ولادته الفعلية، وهو بالضبط ما صنع الالتباس النظري الذي نشأ عن مساواة اميركا بالعولمة، وجعل العولمة رديفاً لأميركا واميركا رديفاً لها
الأميركيون بحسب الوصف الذي سبق ذكره لدى توكفيل وتودورف على حد سواء، قلقون على مستقبلهم. بل تكاد اميركا تكون اكثر الدول قلقاً على مستقبلها. والشعب الأميركي تالياً هو شعب يريد ان يثبت كل يوم احقيته في السيادة على هذه القارة، ذلك ان الإرث الاوروبي المؤسس للثقافة الأميركية لا يفتأ يلكز الجسد الاميركي ويدفعه إلى التحفز مراراً وتكراراً. هكذا لم تلبث المنافسة اليابانية مع اميركا في المجال الاقتصادي ان جعلت قطاعات واسعة من الصناعات الأميركية مهجورة وغير ذات جدوى، وتفاقمت احوال هذه القطاعات مع صعود المارد الصيني واستوائه عملاقاً اقتصادياً على امتداد العالم كله. واليوم ثمة استحقاقات مرة على الأميركيين تجاوزها، قد تكون ابرزها على الإطلاق ما يتعلق بصناعة السيارات
The opinions expressed in this blog are strictly personal and do not reflect the views of Global Brief or the Glendon School of Public and International Affairs.
الآراء الواردة في هذا البلوغ هي اراء شخصية ولا تعبر عن وجهة نظر غلوبال بريف او غلندون سكول اوف بابليك اند انترناشونال افيرز